العلاقة بين علم التربية وعلم النَّفس

العلاقة بين علم التربية وعلم النَّفس

بقلم الدكتور / صالح بن علي أبو عرَّاد
(رئيس هيئة تحرير الحوليَّة ، ورئيس قسم التربية وعلم النفس بالكليَّة)
الحمد لله وحده ، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده ، وبعد :
فتتعدد الآراء وتختلف وجهات النظر عند البعض فيما يخص العلاقة بين علم التربية أو فن التربية pedagogy وعلم النفس psychology ؛ فالبعض يرى أنهما شيءٌ واحد ، والبعض الآخر يفصل بينهما تماماً . وهناك من يقول بوجود بعض نقاط الالتقاء والاتفاق بينهما ؛ الأمر الذي دفعني لمحاولة تسليط الضوء على أبعاد العلاقةٍ بينهما بشيءٍ من الإيجاز والإيضاح . فالعلاقة بين هذين العلمين تبدأ في كونهما جزءًا لا يتجزأ من العلوم التربوية المنتمية بدورها إلى العلوم الاجتماعية والإنسانية التي تُعنى بدراسة الظواهر التربوية والنفسية المختلفة عند الإنسان .
وانطلاقاً من كون " التربية ليست مجرد علم وإنما هي مجالٌ واسعٌ كبيرٌ يضم عدداً من التخصصات العلمية والفروع المختلفة التي تهتم بالعملية التربوية، وتتناولها من زواياها المختلفة"(1 : 35). فإن العملية التربوية تعتمد اعتماداً كبيراً على علم النفس وتُفيد منه ومن دراساته، وأبحاثه، ونظرياته في حل المشكلات التربوية المختلفة على الرغم من أن بعض تلك المشكلات قد أمكن علاجها بطرقٍ مختلفةٍ قبل نشوء علم النفس "كعلمٍ موضوعي مستقل عن الفلسفة والفزيولوجيا في سنة 1879م"(2 : 6) . حيث تمّ فيها إنشاء أول معمل تجريبي في علم النفس .
وبما أن علم النفس يُعدّ واحداً من العلوم التي تجمع بين الجوانب العلمية النظرية و التطبيقية التي تهتمّ بدراسة المجتمع ومن فيه من أفراد أسوياء أو معاقين ، ومن ثم التعرف على أيسر وأفضل السُبل لنموهم نمواً سليماً ، وتعليمهم التعليم المناسب لطاقاتهم وقدراتهم المختلفة ؛ حتى تتحقق استفادة المجتمع منهم بصورةٍ إيجابيةٍ تُسهم في نموه وتطوره ورقيه .
وليس هذا فحسب ، بل هناك من يرى أن علم النفس بمثابة العامل الرئيس في انتشار علم التربية وشيوعه؛ وهو ما يُشير إليه عالم النفس السويسري (جان بياجيه Jan Piaget) الذي يرى "أن الروح العامة للبحوث النفسية وطرق الملاحظة ذاتها هي التي أنعشت علم التربية ، وذلك عندما تجاوزت ميدان العلم البحت إلى ميدان التجريب المدرسي"(3 : 7) . والمعنى أن علم النفس يٌعد واحداً من العلوم الإنسانية التي تهتم بالإنسان الذي يُعد في الوقت نفسه موضوع التربية ومحور اهتمامها منذ ولادته وحتى مماته ، سيّما في الميدان التعليمي . وهذا يؤكد أن عملية التربية تعتمد كثيراً على علم النفس بفروعه المختلفة التي لها علاقة وصلة بالعملية التربوية والتعليمية . ومن هذه الفروع ما يلي :
( 1 ) علم النفس التربوي Educational (Pedagogical) Psychology : ويُعرّف بأنه : "الدراسة العلمية للسلوك الإنساني الذي يصدر خلال العمليات التربوية"(4 : 31) . ويشتمل هذا العلم على فرعين هما :
• علم النفس التعليمي Teaching Psychology الذي يُقدم لإعداد المعلم أو المدرب ، ويُفيد في ذلك من بعض التجارب على الحيوانات والإنسان أحياناً .
• علم النفس المدرسي School Psychology الذي يُقدم لإعداد الأخصائي النفسي في المدرسة .
ومعنى هذا أن علم النفس التربوي يُعد واحداً من الميادين التطبيقية لعلم النفس العام ، والذي تتمثل المهمة الجوهرية لهذا العلم في "تزويد المعلمين وغيرهم من العاملين في ميادين تعديل السلوك الإنساني بالمبادئ النفسية الصحيحة التي تتناول مشكلات التربية ومسائل التعلم المدرسي لكي يُصبحوا أعمق فهماً، وأوسع إدراكاً ، وأكثر مرونةً في المواقف التربوية المختلفة"(4 : 17) .
( 2 ) علم نفس النمو Developmental Psychology : وقد يُسمى علم النفس التكويني Genetical Psychology ، أو علم النفس التطوري ، "وهذا العلم يدرس مراحل النمو المختلفة التي يجتازها الفرد في حياته ، والخصائص السيكولوجية لكل مرحلة ، والمبادئ العامة التي تُصنف مسيرة هذا النمو والارتقاء . وتتضمن الدراسة مظاهر النمو المختلفة مثل : النمو الحركي، والنمو العقلي، والانفعالي، والاجتماعي . و يهدف علم نفس النمو إلى دراسة نمو السلوك البشري، وتطور الوظائف النفسية في مراحل حياة الإنسان المختلفة لتحديد أحسن الشروط البيئية الممكنة التي تؤدي إلى أحسن نمو ممكن، ولتيسير اكتساب أصح أساليب التكيف الاجتماعي"(5 : 37 - 38).
(3) علم نفس الفروق الفردية Differential Psychology : وقد يُسمى "علم النفس الفارق ، ويُعنى بدراسة الفروق الفردية في السمات النفسية، والعقلية، والانفعالية بين الأفراد وارتباطها بالعوامل المختلفة مثل عامل السن أو الجنس أو الوراثة أو البيئة أو الوضع الاقتصادي والاجتماعي"(6 : 26) .
(4) علم النفس الإكلينيكي والإرشاديClinical & Counseling Psychology : وقد يُسمى علم النفس العلاجي حيث "ينصب اهتمام العاملين فيه على مظاهر الاضطراب التي تُصيب سلوك الفرد وشخصيته وطرق تشخيص هذه الاضطرابات ووسائل علاجها . ومن هذه الاضطرابات المرض العقلي، وانحراف الأحداث ، والسلوك الإجرامي ، والإدمان على المخدرات ، والتخلف العقلي، والصراعات العائلية والزوجية"(2 : 7) .
(5) علم النفس الاجتماعي والشخصية Personality & Social Psychology : وهو علمٌ يهتم بطبيعة علاقات الفرد الاجتماعية ، وتأثر سلوكه بالعوامل الاجتماعية المختلفة ، كما يدرس تأثير الآباء ، والاخوة ، ورفاق اللعب ، وزملاء الدراسة على شخصية الفرد وعلى سلوكه واتجاهاته . ويهتم هذا العلم بدراسة سلوك الجماعات كقياس الرأي العام ، ومسح الاتجاهات، ومعرفة آثار وسائل الإعلام المختلفة على سلوك الأفراد والجماهير. ويدرس الإشاعة ووسائل الإقناع ، والإخضاع ، والصراع بين الجماعات ، وقضايا التعصب والتمييز ...إلخ"(2 : 7) .
وليس هذا فحسب،بل هناك فروع أُخرى لعلم النفس وثيقة الصلة بالعملية التربوية مثل : علم النفس المقارن الذي يهتم بالمقارنة بين سلوك الفئات المختلفة (كالذكور والإناث، والأطفال والراشدين، والإنسان المثقف والإنسان الجاهل)، وعلم نفس الشواذ الذي يهتم بفئةٍ معينةٍ من أبناء المجتمع (الموهوبين والنوابغ ، أو المرضى ) ، وغير ذلك من الفروع التي تُفيد منها التربية ، وتستخدم نتائجها ومعطياتها لضمان تحقيق الأهداف التربوية المنشودة من العملة التعليمية بشكلٍ عام . إذ أن "تقدم علم النفس بفروعه المختلفة قد أثَّر تأثيراً جذرياً على التربية وأساليبها، وعلى التعليم من جميع جوانبه، ونواحيه ، ومناهجه ، وطرقه ، ونُظمه ، وكتبه ، ووسائله ، وغير ذلك . وبيَّن أنه لا انفصال بين علم النفس والتربية فكلاهما يهدف إلى إسعاد الفرد ، وإسعاد المجتمع، وكلاهما يُضيء للآخر الطريق، ويُنمَّي كل منهما الآخر"(7 : 65) .
والخلاصة ، أن العلاقة بين علم التربية وعلم النفس علاقة قوية ووطيدة ويمكن تحديدها في النقاط الأربع التالية :
1 - أنهما يشتركان في الاهتمام بالإنسان الذي يُمثل محور اهتمام كلاً منهما انطلاقاً من كون "التربية عمليةٌ إنسانيةٌ هي في الأصل طبيعةٌ أساسية من طبائع النفس البشرية أساسُها قابلية الفرد الفطرية للتكيف"(6 : 1) . وفي الوقت نفسه فإن علم النفس هو "العلم الذي يدرس الإنسان من حيث هو كائن حي له نشاطاته الداخلية والخارجية المتفاعلة مع مختلف ظواهر حياته الإنسانية"(8 : 12) . وهنا يتضح أن موضوعهما الرئيس ومحور اهتمامهما هو الإنسان .
2 – أن العلاقة بين العلمين علاقة تبادلية حيث أن كلاً منهما يعتمد على الآخر في تقدمه وتطوره .
3 – أن تطور فروع علم التربية مدينٌ بفضل كبير لجهود علماء النفس وما قدموه من إسهامات كبيرة للمشتغلين بالتربية سواءً كان ذلك على شكل حقائق ، أو قوانين ، أو نظريات فقد ساعدت جميعها وأسهمت إلى حدٍ ما في إنجاح العملية التربوية عامةً ، وخدمة العملية التعليمية على وجه الخصوص .
4 – أن علم النفس بتطبيقاته العلمية ، ودراساته ، وأبحاثه ، وتجاربه المختلفة يُشكل جزءاً من الجانب العلمي للتربية حيث " أصبحت التربية وعلم النفس الآن متصلين بالمجتمع في إعداد المعلم، وفي التطبيق العملي في العملية التعليمية ، وأدى ذلك إلى تطوير المناهج والخطط وأسلوب التدريس وفق أساسيات علم النفس. وزاد الاهتمام في التربية بميول التلاميذ واهتماماتهم وإشباعها، وخصائص نموهم ، وتعديل سلوكهم . كما تدَّخل علم النفس أيضاً فنَّظَم وسائل التقويم المختلفة للتلاميذ ، فأعَّد المقاييس لقياس تحصيلهم واتجاهاتهم ، كما أعَّد المقاييس لقياس مستوى ذكائهم واكتشاف المتخلفين واقتراحات العلاج . وأصبح لزاماً على التربية أن تتعامل مع كل فردٍ وفق إمكانياته ، وقدراته ، وحالته النفسية ، وظروفه الاجتماعية . وأصبحت إيجابية التلميذ وإيجابية المدرس أساسيتان في عملية التعلم"( 7 : 81) .
وعلى الرغم من ذلك كله فإن ضرورة البحث العلمي هي وحدها التي تقتضي التفريق بين علم التربية من جهة ، وعلم النفس من جهةٍ أُخرى تفريقاً تفرضه ضرورة التخصص العلمي الذي يستوجب التعمق في دراسة الوقائع والظواهر المختلفة لكل علمٍ منهما على حده .
*****
الهوامش والمراجع :
1 – محمد سعد القزاز ، و صالح أبو عراد، (1416هـ). المبادئ العامة للتربية، ط(3)، الرياض : دار المعراج الدولية للنشر .
2 – عبد الرحمن عدس وزميله ، ( 1986م ) . المدخل إلى علم النفس ، ط ( 2 ) ، نيويورك : جون وايلي وأولاده .
3 – غي بالماد ، ( 1970م ) . مناهج التربية ، ترجمة / جوز يف عبَّود كبَّه ، بيروت : دار منشورات عويدات .
4 - فؤاد أبو حطب، و آمال صادق. (1414هـ / 1994م ) . علم النفس التربوي . ط ( 4 ) . القاهرة : مكتبة الأنجلو المصرية .
5 - مختار حمزة . (1998م) . مبادئ علم النفس، جده : دار البيان العربي ، ط ( 4 ) .
6 – بيومي محمد ضحاوي. (1998م) . قضايا تربوية، القاهرة: مكتبة النهضة المصرية .
7 –نازلي صالح أحمد . ( 1983م ) . مقدمة في العلوم التربوية ، القاهرة : مكتبة الأنجلو المصرية . ص ( 65 ) .
8 – عبد الحميد محمد الهاشمي ، ( 1413هـ ) . أصول علم النفس العام ، جده : دار الشروق ، ط ( 3 ) ، ص ( 12 ) .منقول

شكرا لك

بارك الله فيك

» لعلاقة بين علم التربية وعلم النَّفس
» العلاقة بين المدرسة والبلدية
» مديرو التربية بالعاصمة "يقاطعون" اجتماع لجنة التربية بالمجلس الولائي
» وزارة التربية تلتزم رسميا بترقية جميع مساعدي التربية
» كلمة السيدة معالي وزيرة التربية الوطنية بمناسبة افتتاح الدورة التكوينية بالمعهد الوطني لتكوين مستخدمي التربية وتحسين مستواهم